سقراط

يوسف خليل السباعي

قصة قصيرة
عندما سألني ولهان بالفلسفة التقيت به في مقهى” أميستاد” وهو على ما أذكر أو أتخيل صديق قديم تقدم به السن وكان يقرأ كتب الفلسفة كثيرا: لماذا تجرع سقراط السم؟… لم أجد إجابة. وفي الوقت الذي كان يستعد ليخرج لسانه ليتكلم، وكما تعرفون أن اللسان ليس فيه عظم، جاء النادل وسألنا عن طلبياتنا، فسألت صديقي القديم: ماذا تشرب؟… أجاب، وهو يبحث عن شيء في قعر أنفه: كوكا كولا. استغربت لطلبيته، لكني لم أنبس بكلمة… وقتذاك، قلت للنادل: أريد قهوة سوداء عادية. راح النادل، فقال صديقي القديم متسائلا واضعا أصبعه الغليظ على جبينه: ألا تعتقد أن سقراط تجرع السم بسبب القلق؟…
لم أفهم مايقصده بالقلق، فقلت له: قد يكون أصيب بالقلق أو تقلق من قطرات صنبور المياه الذي تركته زوجته على ذلك الوضع. لم يفهم صديقي القديم قصدي من هذا الكلام، وأنزل أصبعه الغليظ من على جبينه، وشرع يتأملني كما لو أنه يقرأ كتاب ” الكلمات والأشياء” لميشيل فوكو. وقتذاك، جاء النادل ووضع زجاجة كوكاكولا وفنجان قهوة سوداء عادية، وراح ليتلقى طلبيات زبائن آخرين. أمسك صديقي القديم زجاجة كوكاكولا وقربها إلى فمه. شرب منها شربة واحدة، فأحس بحريق في حنجرته، لكنه حدق في بعيونه المحمرة، وسألني: وماذا تعرف أنت عن معرفة سقراط؟… شربت من فنجاني الأسود وقلت له:” دعني أوضح لك أمرا”… واستطردت وأنا أقول في سري:(الله أعلم): ” عندما كتب سقراط أنه لايعلم إلا أمرا واحدا هو أنه لايعلم أي أمر… معناه أنه كان يتحدث عن المعرفة. سقراط فيلسوف ذكي كان يعلم بأن العصر الذي يحيا فيه هو عصر لايصدق من يملك السلطة فيه أفكاره ومعارفه… لهذا السبب كان يقول إنه لايعلم أي أمر… لأن تأسيس معرفة فلسفية صادمة جسورة قد تخلخل كل البديهيات وكل الأفكار والمعارف البالية. سقراط يدعي أنه لايعلم إلا أمرا واحدا هو أنه لايعلم أي أمر…. للتمويه فقط… لايتعلق الأمر هنا بالسابيونتيا… ولكن بسخرية سقراط من أغبياء عصره الذين أرادو تدميره”. قاطعني صديقي القديم وهو يمسك زجاجة كوكا كولا بيمناه كما لو أنه ينوي أن يلوح بها بعيدا، وقال بصوت مرتفع: “… ولكنه تجرع السم”.أزعج صوته زبائن المقهى الذين أداروا وجوههم نحوه، لكنه لم يبالي بهم، بينما بقي النادل جامدا غير قادر على أن ينبس بكلمة. فقلت له” هون… هون… عليك. تجرع سقراط السم، لكن فلسفته بقيت متواصلة عبر قرون. سقراط لم يمت.كان سقراط مثل فوكو يبحث عن الحقيقة. ذلك السراب المحير”.
أنزل صديقي القديم زجاجة كوكاكولا على المائدة الصفراء، وخرج دون أن يودعني، ومنذ ذلك الوقت لم أعد أراه أو أسمع عنه أي شيء… أي شيء.